ــــــ بداية انحراف المسيحية في طريق الشيطان ــــــ
الحمد لله و الصلاة و السلام على رسل الله، أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله. أما بعد
فقد كان الإمبراطور قسطنطين سياسيا بارعا، أراد أن تنعم إمبراطوريته بالسلام و الوئام بين أفرادها، و قد كانت الإمبراطورية تتكون من جماعات من الوثنيين، و جماعات من المسيحيين بعضهم من الموحدين، و الآخرين خلطوا توحيد المسيحية بوثنياتهم التي انتقلوا منها إلى المسيحية، و في نفس الوقت أراد الإمبراطور أن يؤله نفسه كما فعل أبوه.
و كان تحقيق هذين الهدفين يقتضي القضاء على الموحدين من المسيحيين، لهذا عقد الإمبراطور مجمعا كنسيا حكم فيه على الموحدين بالحرمان و النفي و التقتيل و أحرق كتبهم و اضطهد أتباعهم، كما حكم برفعة الوثنيين و أعطاهم أموالا و أملاكا، و أطلق أيديهم في حكم أتباعهم.
و في البداية نتعرف على جوانب المشكلة التي انعقد المجمع لحلها.
إشكال آريوس:
لم يكن الإشكال العقائدي الذي نشب بين آريوس الموحد من جهة و المسيحيين المثلثين من جهة أخرى سهلا واضح المعالم، بل كان لكل طرف أدلته، حتى إن الفصل بينهما يعد مخاطرة، و خاصة بعد إعدام كتب و أدلة أحد الطرفين، جاء في تاريخ المسيحية الشرقية ص55: و هنا نجد أنفسنا على أرض حرجة منزلقة، و لعله من باب الحماقة أن نتعمق كثيرا في أبعاد الجدل اللاهوتي لذلك العصر.اهـ يعبر الكاتب عن صعوبة و خطورة الفصل في هذه القضية الشائكة، حتى مع اعتقاده ضلال و هرطقة آريوس، فإنه لا يقدر أن يلومه و يحكم عليه.
قصة الحضارة ج11ص393: ويقول أريوس إن المسيح لم يكن هو والخالق شيئاً واحداً، بل كان هو الكلمة أول الكائنات التي خلقها الله وأسماها. واحتج الأسقف ألكسندر على هذا القول، ولكن أريوس أصر عليه وقال إنه إذا كان الابن من نسل الأب، فلابد أن تكون ولادته قد حدثت في زمن، وعلى هذا لا يمكن أن يكون الابن متفقاً مع وجود الأب في الزمن. يضاف إلى هذا أنه إذا كان المسيح قد خلق فلابد أن يكون خلقه من لا شيء، أي من غير مادة الأب؛ لأن المسيح والأب ليسا من مادة واحدة. وقد ولد الروح القدس من الكلمة، وهو أقل ألوهية من الكلمة نفسها. ...... وارتاع الأسقف ألكسندر من هذه الآراء، وارتاع أكثر من هذا من سرعة انتشارها بين رجال الدين أنفسهم. ولهذا دعا مجلساً من الأساقفة المصريين إلى الاجتماع في الإسكندرية، وأقنع أعضاءه بأن يحكموا بتجريد أريوس وأتباعه؛ وأبلغ الإجراءات التي اتخذها المجلس إلى سائر الأساقفة، فاعترض عليها بعضهم، وأظهر بعض القساوسة عطفاً على أريوس، واختلفت آراء رجال الدين والدنيا في الولايات الأسيوية في هذه المشكلة، وترددت في المدائن أصداء "الضجيج والاضطراب... حتى كان الدين المسيحي، كما يقول يوسبيوس "موضوع السخرية الدنسة من الوثنيين، حتى في دور التمثيل نفسها".اهـ
و أدى هذا الجدال إلى تقسيم المجتمع المسيحي إلى ثلاث فرق، فريق المثلثين المتعصبين لألوهية المسيح، و فريق الموحدين الرافضين رفضا قاطعا ألوهية المسيح، و فريق متوسط محايد بين الطرفين السابقين، لا يميل لأحدهما، و ربما اعتقد بعضا من هذا و بعضا من ذاك، فيعتقد أن المسيح إلها ثانيا غير كامل الألوهية.
يقول الدكتور حنا جرجس الخضري ج1ص627: و يمكننا أن نلاحظ وجود ثلاثة أحزاب في هذا المجمع:
1- الحزب المصري، و على رأسه الأسقف ألكندروس و أثناسيوس، و انضم إلى هذا الحزب ممثلو الغرب و هم أقلية.
2- حزب آريوس اللوقيانوسيون(أتباع لوقيانوس) و على رأسه الأسقف أسابيوس النيقوميدي. و هذا الحزب لا يضم هو الآخر إلا أقلية من أعضاء المجمع. و لكنها أقلية متحمسة.
3- و أما الحزب الثالث فيمكن أن نسميه الحزب المحايد، أو أتباع أوريجانوس، و على رأسه أسابيوس القيصري مؤرخ الكنيسة المعروف. و قد اشتهر بالعلم و الاتزان و المعرفة، و يقول هرنك بأن أغلبية الأساقفة الذين كانوا يمثلون الكنائس في هذا المجمع كانوا على درجة متوسطة من العلم.
سعة انتشار الأريوسية:
نستطيع أن نقرر بمنتهى اليقين أن التوحيد الأريوسي كان المذهب السائد في كل العالم المسيحي، هذا مع وجود القليل من الهرطقات و الكفريات و الوثنيات التي ألحقها البعض بدين المسيح، حتى صرخ أثناسيوس نفسه: إنني أصارع ضد العالم، و لكن بعد مجمع نيقية و تأييد الدولة بقوتها و قهرها و أموالها للمسيحية الوثنية انقلب الحال، فساد المهرطقون و الوثنيون.
تاريخ المسيحية الشرقية ص56: و في حين كان أنصار آريوس من العناصر اليونانية أو المتأغرقين ثقافيا، اعتمد أثناسيوس على تأييد المصريين و رهبان الصحراء لقضيته، و لكن الأريوسية كانت تتمتع بقاعدة عريضة من الأتباع في بداية الأمر، خاصة خارج حدود مصر، و هكذا وجد أثناسيوس نفسه "يصارع ضد العالم، و العالم يصارع أيضا ضده"
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص623: و على ما يظهر، فإن نجم أريوس بدأ يلمع من جديد ليس فقط في مصر و في مواني الإسكندرية حيث كان يتغنى البعض، على الأخص الملاحون الذين كانوا يحملون و يفرغون السفن، بالترانيم العقائدية التي كتبها آريوس، و التي كان يصف فيها علاقة الآب بالابن، بل إن شهرته امتدت إلى بلاد كثيرة في الشرق و أصبح أتباعه و أضداده كثيرين.
و حتى بعد المجمع استمرت الأريوسية في الانتشار.
تاريخ الأمة القبطية و كنيستها ج1ص207: و قد يظن البعض أن شقاق آريوس قد انتهى عند هذا الحد، و الحقيقة أنه بدأ يستفحل الآن.
مختصر تارخ الكنيسة ص154: بدأ النزاع الأريوسي الذي نشأ في الشرق، و امتد إلى جميع أنحاء العالم.
تاريخ الكنيسة ج3ص242: أما عن الكنيسة، فباستثناء روما، كانت الأريوسية حية و نشطة للغاية، و كان أساقفة أرليز و رافينا و قرطاجنة أريوسيين.
و لعل هذا هو السبب الرئيس في عفو الإمبراطور بعد قليل عن آريوس.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص644: عندئذ أصدر الإمبراطور قسطنطين أمره بإرجاع أريوس إلى كنيسته، و طلب من أسقف الإسكندرية إعادته إلى منصبه.
و لقد تكرر هذا الأمر عدة مرات، أعني تجريم آريوس ثم العفو عنه، و في المقابل محاكمة أثناسيوس و تجريمه و نفيه ثم العفو عنه، حتى عقد مجمع جديد أصدر قرارا بالعفو عنه و تجريم أثناسيوس يدعى مجمع صور، و لكن معظم الكنائس لا تعترف به، كما أن المؤرخين يختلفون في ذكر أسباب عدم اعتراف الكنائس به، فبينما يقول ملر ص162 أن أثناسيوس رفض المثول أمام المجمع، يقول حنا جرجس ص646 أن رئاسة المجمع منعته من الدخول، و مع هذا فقد حضر جزءا من جلسات المجمع، و ليس من أهداف بحثنا تتبع هذه المرات أو تحليل أسبابها، و بخاصة أن أغلب من تكلم عنها يحكمه الهوى أكثر مما تحكمه الوقائع.
تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة ص449: هكذا تبدأ الصيغة التي وقعها آريوس، و بعد ذلك بقي قسطنطين حتى نهاية ملكه، تارة يدافع عن آريوس و تارة يحرمه. فسنة328 بعد إعادة آريوس من منفاه، تدخل الإمبراطور بشدة لدى أثناسيوس الذي خلف ألكسندرس على كرسي الإسكندرية، و كان قد حضر مجمع نيقية بصفة شماس و أمين سر، في اتجاه المصالحة بينه و بين آريوس، فرفض أثناسيوس رفضا قاطعا، و سنة333عاد قسطنطين فحكم على آريوس و أمر بإحراق كتاباته. و لكن سنة335أقر سينودس عقد في أورشليم، بتحريض من أوسابيوس أسقف قيصرية و أوسابيوس أسقف نيقوميدية، إعادة قبول آريوس في الكنيسة. و لكن آريوس لم يلبث أن توفي بعد الإعلان الرسمي لهذه المصالحة بفترة وجيزة سنة336. و لا بد من الإشارة إلى أن الحكم النهائي على الأريوسية أدى إلى فقدان كامل لكتابات آريوس، التي لم يحفظ منها شيء.
قصة الحضارة ج12ص19: في القرن الرابع الميلادي كانت الشؤون الكنسية، في عالم البحر المتوسط الذي تعتمد فيه الدولة اعتماداً كبيراً على الدين، قلقة مضطربة إلى حد شعرت الحكومة معه أن لا بد لها من أن تتدخل في أسرار الدين وخفاياه. ذلك أن مجمع نيقية الذي عقد في عام 325 لم يضع حداً للنقاش الحاد الذي احتدم أواره بين أثناسيوس وأريوس، بل ظل كثير من الأساقفة- كانوا هم الكثرة الغالبة في الشرق- يناصرون أريوس، سراً أو جهراً؛ أي أنهم كانوا يرون أن المسيح ابن الله، ولكنه لا يشترك مع الأب في مادته ولا في خلوده. و لم يستنكف قسطنطين نفسه، بعد أن قبل قرار المجمع، وطرد أريوس من البلاد، أن يدعوه إلى اجتماع شخصي معه (سنة331)؛ فلما أجتمع به لم يجد في أقواله ما يستطيع أن يعده خروجاً على الدين، وأوصى بأن ترد إلى أريوس وأتباعه كنائسهم. واحتج أثناسيوس على ذلك، فاجتمع في صور مجلس من أساقفة الشرق وقرر خلعه من كرسي الإسكندرية الديني (سنة335)، وظل عامين طريداً في غالة. أما أريوس فقد زار قسطنطين مرة أخرى، وأعلن قبوله للعقيدة التي قررها مؤتمر نيقية بعد أن أضاف إليها تحفظات دقيقة لا ينتظر من إمبراطور أن يفهمها.
هل كان قسطنطين مسيحيا عندما رأس مجمع نيقية؟
يتسائل المؤرخ الكبير ول ديورانت في موسوعته قصة الحضارة ج11ص387: ترى هل كان قسطنطين حين اعتنق المسيحية مخلصاً في عمله هذا؟ وهل أقدم عليه عن عقيدة دينية، أو هل كان ذلك العمل حركة بارعة أملتها عليه حكمته السياسية؟ أكبر الظن أن الرأي الأخير هو الصواب.
قصة الحضارة ج11ص384: ولعل حقيقة الأمر أن قسطنطين رأى أن يربط حظه بحظ المسيحيين حين رأى مكستنيوس يرفع لواء مثراس أورليان، وهو لواء الشمس التي لا تقهر. وكان عدد جنوده المسيحيين وقتئذ كبيراً، وبهذا جعل هذه المعركة نقطة التحول في تاريخ الأديان.
قصة الحضارة ج11ص389: لكن قسطنطين اضطر إلى أن يتحسس كل خطوة يخطوها بحذر، لأن الوثنية كانت هي الغالبة على العالم الذي يعيش فيه. ولذلك ظل يستخدم ألفاظاً توحيدية يستطيع أن يقبلها كل وثني، وقام خلال السنين الأولى من سلطانه المفرد في صبر وأناة بجميع المراسيم التي يتطلبها منه منصب الكاهن الأكبر، والتي تحتمها عليه الطقوس التقليدية، وجدد بناء الهياكل الوثنية، وأمر بممارسة أساليب العرافة؛ واستخدم في تدشين القسطنطينية شعائر وثنية ومسيحية معاً، واستعمل رقى سحرية وثنية لحماية المحاصيل وشفاء الأمراض.
تاريخ الكنيسة ج3ص23: سمات المسيحية عند قسطنطين: لكن إلى أي مدى كان مسيحيا؟ هل فهم فعلا طبيعة هذا الإيمان الجديد؟ لقد تناول الكثيرون من المؤرخين هذا الموضوع في دراسة مستفيضة و جاءت النتائج متضاربة. إن قسطنطين لم يتخل عن عبادته لإله الشمس.
تاريخ الكنيسة ج3ص63: يجب أن نقتبس هنا فكر المؤرخ ستانلي" هكذا رحل أول إمبراطور مسيحي، أول مدافع عن الإيمان، أول نصير ملكي للكرسي البابوي، و كل الكنيسة الشرقية. أول من أسس الأماكن المقدسة، وثني مسيحي، أرثوذكسي و هرطوقي، متحرر و متعصب. ليس من يشابهه أو يعجب به، بل نذكره كثيرا و ندرسه بعمق"
مختصر تاريخ الكنيسة ص149: قسطنطين كرئيس الكنيسة و الكاهن العظيم للوثنيين: و من ذلك الحين اتخذ قسطنطين مقام رأس الكنيسة بصورة علنية أمام العالم أجمع، و في الوقت ذاته احتفظ لنفسه بمقام الكاهن العظيم للأوثان، ذلك اللقب الذي لم يتخل عنه قط، حتى مات و هو حائز للقبين: رأس الكنيسة، و الكاهن العظيم للأوثان. إن التحالف غير المقدس و الاندماج المحرم بين الكنيسة و الحكومة، الذي أشرنا إليه آنفا بكل أسف و حزن عند استعراض الخطاب إلى ملاك كنيسة برغامس، نشاهده في كل نقطة من تاريخ ذلك الإمبراطور.
ما هو هدف قسطنطين من حضور مجمع نيقية؟
كان لقسطنطين هدفان رئيسيان من وراء عقده لمجمع نيقية، أحدهما سياسي و هو الحفاظ على الهدوء و السلام و الوحدة داخل الإمبراطورية، و الثاني شخصي و هو جعل شخصه وثنا و إلها تتوجه إليه العبادات و الصلوات و يكون محلا للسجود و التكريم، و كان السبيل إلى تحقيق هذين الهدفين معا، هو تشجيع الوثنية في الإمبراطورية، حتى بين المسيحيين أنفسهم.
الهدف الأول تأليه الإمبراطور:
لا خلاف بين المؤرخين على رغبة قسطنطين في تأليه نفسه. كما قال يوسابيوس القيصري في تاريخ الكنيسة ص368: و بعد ذلك بقليل ختم الإمبراطور قسطنطيوس حياته بموت طبيعي، و قد كان كل أيام حياته رحيما برعاياه و محبا للكلمة الإلهي. و بموته ترك بدلا عنه ابنه قسطنطين كإمبراطور و أغسطس. و كان أول من اعتبر إلها، و نال بعد موته كل إكرام يمكن أن يقدم لإمبراطور. و كان أرق إمبراطور و أكثرهم شفقة و رحمة.
تاريخ الكنيسة ج1ص18: عبادة الإمبراطور: كانت إحدى تلك الديانات الشعبية التي بدأت تنتشر في تلك الحقبة من الزمن، تتكون من ربط الوطنية بالطقوس التي كان محورها الدولة، مع اتخاذ الإمبراطور مركزا لها، و لهذا فقد جعلوا من الإمبراطور إلها، و أصبحت عبادته واجبا وطنيا على كل مواطن.
و لما كان قسطنطين إمبراطورا سياسيا بارعا، و كان حريصا على إرساء السلام في ربوع إمبراطوريته، و قد تعلم من سلوك الأباطرة السابقين أن العنف و القسوة لا تفيد مع المسيحيين، و لن توصله إلى هدفه ليكون هدفا للعبادة و الصلوات المسيحية.
و لم يكن الربط بين الوثنية الرومانية و الوثنية المسيحية بالأمر العسير.
قال في قصة الحضارة ج11ص385: و لم يكن الصليب يسيء إلى جنود قسطنطين من عُبّاد مثراس، لأنهم طالما حاربوا تحت لواء يحمل شعاراً مثراسّياً من الضوء. و مهما يكن من شيء فقد انتصر قسطنطين.
يحكي لنا المؤرخ الأمريكي وليام ماكبرين كيف بنى قسطنطين كنيسة عظيمة، و كيف كافح باستماتة ليجمع رفات تلاميذ المسيح من كافة أنحاء العالم إلى داخل هذه الكنيسة، حتى أنه اضطر إلى تلفيق رفات للرسل الذين لم يجد رفاتهم.
البحث عن الاثني عشر رسولا ص18: و في الجانب الآخر فإننا يجب أن نعترف أن بعضا من هذه الرفات الرسولية يمكن أن تكون غير أصلية.
ثم كيف حاول أن يضع رفاته في وسطهم بعد وفاته، ليكون هدفا لصلوات و عبادة الزائرين لهذه الكنيسة.
البحث عن الاثني عشر رسولا ص17: و بسرور بنى بازليكا لإكرام عظام القديس بولس في روما، ........ يوجد دليل ما على أنه سعى لوضع أجساد الرسل حوله في اثني عشر مذبحا، بينما جسده ذاته يرقد في وسطهم كالرسول الثالث عشر! و قد روى لنا يوسابيوس القيصري القصة في"الأيام الأخيرة لقسطنطين".
البحث عن الاثني عشر رسولا ص17: و قد كرس الإمبراطور كل هذه العمارة رغبة منه في تخليد ذكرى الرسل لمخلصنا قبل كل الناس، و مع ذلك كان له هدف آخر في إقامة هذا المبنى، أي كنيسة الرسل بالقسطنطينية: هدف كان غير معلوم في الأول، لكن أصبح جليا بعد ذلك للجميع. ففي الحقيقة وقع اختياره لتلك البقعة منتظرا لموته، مقدما بحماس غير عادي للإيمان بأن جسده سوف يشارك لقبهم مع الرسل ذاتهم و ذلك إنه سيصبح حتى بعد الموت الهدف معهم للعبادة التي سوف تقدم لإكرامهم في هذا المكان، و لهذا السبب أمر الناس المحتشدين للعبادة هناك عند المذبح الموضوع في الوسط.
البحث عن الاثني عشر رسولا ص17: تبعا لذلك أوجب أن توضع اثني عشر تابوتا في تلك الكنيسة مثل عواميد مقدسة لإكرام و ذكرى الزمرة الرسولية و في وسطهم وضع الذي له، و ستة منهم على كل جانب منه. و ذلك مثلما قلت، أنه أعد و جهز بنظرة ثاقبة حكيمة، موضع راحة بإكرام لجسده بعد الموت و أن يكون هذا القرار سريا لمدة طويلة، مدشنا هذه الكنيسة الآن للرسل، معتقدا أن إهداء هذه لذكراهم سوف لا تكون ذات فائدة قليلة لروحه، و سوف لا يخيب الله أمله في تلك التي يتوقعها أو يرغبها بحرارة.
البحث عن الاثني عشر رسولا ص17: مخططا لكنيسة الرسل، حلم قسطنطين، أن يرتاح هناك إلى الأبد في وسط الاثني عشر، ليس فقط كواحد منهم و لكن كرمز لهم إن لم يكن كبديل لقائدهم. و خلال شهور تشييد الكنيسة كان وكلاؤه مشغولين في فلسطين لجمع الرفات المزعومة للرسل و رفقائهم، لوضعها في الكنيسة مع جسده منتظرا القيامة العامة للأموات.
البحث عن الاثني عشر رسولا ص18: و رقد جسده، مع ذلك، ليس في أي ضريح فخم البناء أو مع أي من الأباطرة الوثنييين العظماء الذين كانوا قبله، بل مع اختياره الشخصي، وسط الآثار التذكارية للرسل الاثني عشر.
الهدف الثاني: إرساء السلام:
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص625: لم يقبل الإمبراطور قسطنطين هذه الصورة البشعة التي ظهرت بها المسيحية. و في حقيقة الأمر لم يكن رفضه لهذه الصورة الغير مشرفة للمسيح نابعا من غيرته للمسيح و للمسيحية فقط، بل كان يرى في هذه الانقسامات و المعارك اللاهوتية عاملا خطيرا و هداما لوحدة الإمبراطورية الرومانية.
تاريخ المسيحية الشرقية ص57: أما الإمبراطور قسطنطين فكان مهتما في الدرجة الأولى بوحدة إمبراطوريته، و لذا كتب إلى طرفي النزاع يأمرهما بالكف عن "هذا الهراء اللامفهوم"، و يحثهما على إنهاء الخلاف بينهما على درجة من السرعة. كذلك أوفد إلى الإسكندرية أسقف غرناطة المسن هوزيوس ليتوسط في الأمر، و ليرفع إليه تقريرا عما ينتهي إليه.
قصة الحضارة ج11ص387: ويتضح من رسائله التي بعث بها إلى الأساقفة المسيحيين أنه لم يكن يعنى بالفروق اللاهوتية التي كانت تضطرب لها المسيحية، مع أنه لم يكن يتردد في القضاء على الانشقاق محافظة على وحدة الإمبراطوريّة. وقد كان في أثناء حكمه كله يعامل الأساقفة على أنهم أعوانه السياسيون؛ فكان يستدعيهم إليه، ويرأس مجالسهم، ويتعهد بتنفيذ ما تقره أغلبيتهم من آراء. ولو أنه كان مسيحياً حقاً أولاً وحاكماً سياسياً بعدئذ؛ ولكن الآية انعكست في حال قسطنطين، فكانت المسيحية عنده وسيلة لا غاية. ولقد شهد في حياته كيف أخفق الاضطهاد ثلاث مرات، وانطبع في نفسه بلا ريب انتصار المسيحية رغم كل اضطهاد. نعم إن أتباع هذا الدين كانوا لا يزالون قلة في الدولة، ولكنهم كانوا إذا قيسوا إلى غيرهم قلة متحدة، مستبسلة قوية، على حين أن الأغلبية الوثنية كانت منقسمة إلى عدة شيع دينية، وكان فيها عدد كبير من النفوس التي لا عقيدة لها ولا نفوذ في الدولة. وكان المسيحيون كثيرين في روما بنوع خاص في عهد مكسنتيوس، وفي الشرق في أيام ليسنيوس؛ وقد أفاد قسطنطين من تأييد المسيحية اثنا عشر فيلقاً لاقى بها هذين القائدين. ولقد اعجب بجودة نظام المسيحيين إذا قيسوا بغيرهم من سكان الإمبراطوريّة، وبمتانة أخلاقهم، وحسن سلوكهم، وبجمال الشعائر المسيحية وخلوها من القرابين الدموية، وبطاعة المسيحيين لرؤسائهم الدينيين، وبرضاهم صاغرين بفوارق الحياة رضاء مبعثه أملهم في أنهم سيحظون بالسعادة في الدار الآخرة. ولعله كان يرجو أن يطهر هذا الدين الجديد أخلاق الرومان. ويعيد إلى الأسرة ما كان لها من شأن قديم، ويخفف من حدة حرب الطبقات، وقلما كان المسيحيون يخرجون على الدولة رغم ما لاقوه من ضروب الاضطهاد الشديد، ذلك بأن معلميهم قد غرسوا في نفوسهم واجب الخضوع للسلطات المدنية، ولقنوهم حق الملوك المقدس. وكان قسطنطين يأمل أن يكون ملكاً مطلق السلطان، وهذا النوع من الحكم يفيد لا محالة من تأييد الدين، وقد بدا له أن النظام الكهنوتي وسلطان الكنيسة الدنيوي يقيمان نظاماً روحياً يناسب نظام الملكية، ولعل هذا النظام العجيب بما فيه من أساقفة وقساوسة، يصبح أداة لتهدئة البلاد وتوحيدها وحكمها.
قصة الحضارة ج11ص393: ولما جاء قسطنطين إلى نقوميديا بعد أن هزم ليسنيوس، سمع هذه القصة من أسقفها، فأرسل إلى الاسكندر وإلى أريوس رسالة شخصية يدعوهما فيها أن يتخلقا بهدوء الفلاسفة، وأن يوفقا بين آرائهما المختلفة في سلام، فإن لم يفعلا فلا أقل من أن يخفيا جدلهما عن آذان الجماهير، ويكشف هذا الخطاب، الذي نقله لنا يوسبيوس، في صراحة عن قلة اهتمام قسطنطين بعلوم الدين، وعن الهدف السياسي الذي كان يبتغيه من سياسته الدينية:
"لقد اقترحت أن أرّد جميع آراء الناس في الله إلى صورة واحد، لأني قوي الاعتقاد بأني إذا استطعت أن أوحد آراءهم في هذا الموضوع سهل علي كثيراً تصريف الشئون العامة. ولكني مع الأسف الشديد أسمع أن بينكما من الخلاف أكثر مما كان قائماً في أفريقية من وقت قريب. ويبدو لي أن سبب هذا الخلاف بينكما صغير تافه غير جدير بأن يثير هذا النزاع الشديد. فأنت يا ألكسندر تريد أن تعرف رأي قساوتك في إحدى النقاط القانونية، في جزء من سؤال هو في حد ذاته عديم الأهمية؛ وأما أنت يا أريوس فقد كان الواجب عليك، إذا كانت لديك أفكار من هذا القبيل، أن تظل صامتاً... ولم يكن ثمة حاجة إلى إثارة هذه المسائل أمام الجماهير... لأنها مسائل لا يثيرها إلا مَن ليس لديهم عمل يشغلون به أنفسهم، ولا يرجى منها إلا أن تزيد عقول الناس حدة... تلك أعمال سخيفة بالأطفال العديمي التجربة لا برجال الدين أو العقلاء من الناس".
ولم يكن لهذه الرسالة أثر ما لأن مسالة اتفاق الأب والابن في المادة لا مجرد تشابههما كانت في نظر الكنيسة مسألة حيوية من الوجهتين الدينية والسياسية، وكانت ترى أنه إذا لم يكن المسيح إلهاً فإن كيان العقيدة المسيحية كلها يبدأ في التصدع، وإذا ما سمحت باختلاف الرأي في هذا الموضوع فإن فوضى العقائد قد تقضي على وحدة الكنيسة وسلطانها، ومن ثم على ما لها من قيمة بوصفها عوناً للدولة.
تاريخ الكنيسة ج3ص44: فكتب قائلا "إنه بعد تقصي بعناية و دقة أصل و أساس هذه الخلافات وجد أن السبب في الحقيقة شيء تافه و لا يستحق مثل هذا النزاع الشرس" و أضاف أن المناقشة يجب أن يقصد بها مجرد رياضة عقلية، و ألا تعرض بتسرع في الاجتماعات الشعبية و العامة، و ألا يعهد بها إلى أذن المجتمع بدون تعقل.
ص26: لقد كان الدين دائما في العقلية الرومانية في خدمة الدولة (فلأي سبب آخر كان الإمبراطور يعبد كإله؟) و الآن أصبح هذا الأمر أكثر وضوحا، فإن قسطنطين بعد انتصاراته الشهيرة، أصبح يعتبر وعد الإنجيل وعدا للإمبراطورية بل و لعائلته.
ص27: و واضح أيضا أن قسطنطين اهتم بمعرفة شئون الكنيسة، و كثيرا ما تقابل مع قادتها. و قد حرص على أن يقول في إحدى المناسبات موجها كلامه إلى جماعة من الأساقفة: "أنتم عينتم أساقفة لشئون الكنيسة الداخلية، و قد تعينت أنا أسقفا من الله لشئونها الخارجية".
ص25: ممثل الله على الأرض: و مما يستلفت النظر أن قسطنطين لم يعتبر نفسه إلها حسب عادة الأباطرة الرومان، بل اعتبر نفسه نائبا عن الله في حكم الإمبراطورية، و يوضح يوسابيوس في كتابه "حياة قسطنطين" هذه الفكرة:"إله الكل"، الحاكم الأسمى لكل الكون عين بإرادته قسطنطين ليكون رئيسا و سلطانا.
ص62: و قد أعلنت الكنيسة اليونانية أن قسطنطين واحد من القديسين، ناظرا إليه بنفس التوقير الذي تقدمه الكنيسة لشارلمان، و هو بالتأكيد يستحق لقب"العظيم" اعتقد يوسابيوس المؤرخ بوجوب اعتبار قسطنطين مساويا للرسل، لكن هذا الأمر مفتوح للمناقشة.
ص26: المحبة المسيحية تخدم الإمبراطورية: كان من عبقرية قسطنطين أنه اكتشف في الإيمان المسيحي وسيلة جديدة للوحدة السياسية.
مختصر تاريخ الكنيسة ص148: يحتمل أنه قدر بحكمته السياسية فضل المسيحية أدبيا و تأثيرها في أن تجعل الناس يخضعون خضوعا تاما للسلطة المدنية، و الأثر العظيم التي كان لها على عقول نحو نصف إمبراطوريته.
هدف ثالث:
هدف ثالث يراه بعض المؤرخين، أن قسطنطين رأى في المسيحية ديانة سهلة الغفران، يستطيع فيها أن يفعل ما يشاء من الذنوب، ثم يستدعي من يشاء من رجال الدين الذين أجزل لهم العطاء فيمنحونه الغفران لذنوبه و يدخلونه الملكوت، و خاصة أنه قد عاش حياة عاصفة امتلأت بالمعاصي بكافة أشكالها.
مختصر تاريخ الكنيسة ص152: لقد وجد قسطنطين في هذا التعليم رخصة لأن يسعى لنيل مطامعه الكثيرة، و يسلك في سبيل ذلك أظلم المسالك من إراقة الدماء و استعمال القسوة، متشجعا بأن وسيلة غفران الخطايا سهلة و تحت يده متى أرادها.
وصف الخصمين:
ربما كان من المناسب أن نذكر صفات كل من آريوس و أثناسيوس، و هما الخصمان الرئيسان في مجمع نيقية، و بناء على ما نعلمه من صفات كل منهما يمكن أن ندرك إلى أي فريق نميل. و لعل الصعوبة في معرفة صفات كل منهما تكمن في أن الحكم على كل منهما دائما ما يخضع لهوى الكاتب، فيقول الهرطوقي آريوس و القديس الرسولي أثناسيوس بطل الإيمان، و لكننا سوف نغوص في بطون كتب التاريخ لنحاول أن نستخلص منها حكما صحيحا على كل منهما، معتمدين على بعض المنصفين أو أشباه المنصفين.
تاريخ المسيحية الشرقية ص52: على أنه من الخطأ أن نبادر بوصف الهرطيق على أنه إنسان لا ديني، بل على العكس كان بعض الهراطقة متمسكين بقواعد الإيمان، كما أنهم كانوا من خيرة المفكرين في عصرهم، كما أن بعضهم قد تمسكوا بحياة الزهد و المسكنة. و لهذا يمكن لنا أن نصف هذا العصر بحق بأنه عصر القديسين و الهراطقة جنبا إلى جنب، و كان كل من الفريقين يتحلى بالنوايا الحسنة، طبقا لرؤيته و موقف الجماعة التي ينتمي إليها.
تاريخ المسيحية الشرقية ص55: و كان كل من آريوس و أثناسيوس لاهوتيين ضالعين، تغلب عليهما حياة الزهد، و لا غبار على شخصيهما في شيء، فهما ممتلئان بالحماس الديني و قوة العزيمة و الموهبة في إلقاء المواعظ.
وصف آريوس:
قصة الحضارة ج11ص392: ويصفه مؤرخ كاثوليكي عالم وصفاً كريماً فيقول: "كان أريوس... طويل القامة، نحيل الجسم، مكتئب المظهر، ذا منظر تبدو فيه آثار خشونة العيش. وكان معروفاً بأنه من الزهاد، كما يستدل على ذلك من ملبسه، وهو جلباب قصير من غير كمين تحت ملحفة يستخدمها عباءة وكانت طريقته في الحديث ظريفة، وخطبه مقنعة. وكانت العذارى اللاتي نذرن أنفسهن للدين، وهن كثيرات في الإسكندرية، يبجلنه أعظم التبجيل، وكان له من بين رجال الدين عدد كبير من المؤيدين".
تاريخ الكنيسة ج3ص39: يقال إنه كان إنسانا متقشفا، بسيطا في معيشته رقيقا، لبقا في حديثه، و كان شخصية محترمة جدا.
ص40: من الواضح أن الدافع لآريوس هو الحفاظ على كمال الله الآب و سرمديته و ألوهيته. و في نفس الوقت نسب دورا هاما للمسيح الابن، يفرزه عن الآخرين.
مختصر تاريخ الكنيسة ص157: و قد وصفه المؤرخون بأنه طويل القامة و جليل الهيئة، هادئ الطبع أصفر اللون، تظهر على محياه علامات الدعة و الخضوع، له مقدرة في الخطابة و ذو ذكاء حاد، مدقق في سلوكه، أخلاقه حسنة.
هذا عن صفات شخصيته، أما عن عمق فكره و اتساع ثقافته:
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص619: و لقد أجمع الكتاب على أن آريوس كان عالما مثقفا، و واعظا مفوها و زاهدا متقشفا، و عالما في التفسير. فاستطاع هذا الشاب العالم المتقشف الزاهد أن يجذب حوله جماعة من أهل الإسكندرية، على الأخص من الرهبان و الراهبات الذين وجدوا في أسلوبه الوعظي و التعليمي تحديدا و ابتكارا يختلف عن العظات التي تعودوا على سماعها.
تاريخ المسيحية الشرقية ص56: فلقد كان شاعرا و موسيقيا وسيما، و راح يصوغ لاهوتياته في ديوان من الترانيم الشعبية عرفت باسم ثاليا بمعنى المأدبة، على طراز الأغاني الشعبية المحبوبة، الأمر الذي جذب إليه و إلى تعاليمه أعدادا وفيرة من العامة، الذين راحوا يتغنون بتلك الأشعار في كل مكان.
تاريخ الكنيسة ج3ص43: و تم توزيع النشرات و وضع الأغاني العامة لتعليم الشعب (سواء أدركوا المعنى اللاهوتي أم لا). و قد كتب آريوس قصيدة شعرية طويلة اسمها تاليا يمتدح فيها أفكاره.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص633: كان المعلم الليبي خطيبا مفوها و واعظا مشهورا، استطاع بأسلوبه السلس و علمه الواسع أن يجتذب الكثيرين إلى كنيسة بنكاليس التي كان يرعاها في الإسكندرية. كما أنه استطاع بمهارة و لباقة أن يهاجم في بداية خدمته الرعوية تعاليم سابليوس التي قاومتها بشدة كنيسة الإسكندرية. لهذه الأسباب و لأسباب أخرى، التف حوله جماعة من الرهبان و الراهبات و من الشعب الذين أعجبوا في بداية الأمر بوعظه و تعاليمه.
وصف أثناسيوس:
نقرأ في الكتب الكنسية تعظيما غير عادي لشخص أثناسيوس، و لكن المؤرخين لهم رأي آخر، يصفونه بالنفاق و الإرهاب و الكذب و التدليس و قلب الحقائق لتحقيق مكاسب مزيفة و بطولة وهمية لكسب تأييد البابا الوثني و نيل البابوية من بعده.
كان أثناسيوس منافقا، كانت هذه هي أبرز صفاته، ظهرت حتى في طفولته، جاء عنه في السنكسار 7 بشنس: و حدث و هو في المكتب أن رأي بعض أولاد المسيحيين يقومون بتمثيل الطقوس المسيحية فجعلوا البعض منهم قسوسا و البعض شمامسة و أحدهم أسقفا فطلب أن يشترك معهم فمنعوه قائلين: إنك وثني و لا يجوز لك الاختلاط بنا فقال لهم: أنا من الآن نصراني ففرحوا به و جعلوه عليهم بطريركا و أجلسوه في مكان عال و صاروا يقدمون له الخضوع و اتفق عبور البابا ألكسندروس في تلك الساعة فلما رآهم علي هذه الحال قال للذين معه عن أثناسيوس لابد أن يرتقي هذا الصبي إلى درجة سامية يوما ما.اهـ
مجموعة الشرع الكنسي ص44: كاد الآباء في مجمع نيقية يعملون برأي بعض الأساقفة فلا يستعملون في تحديداتهم إلا العبارات الكتابية. و لكنهم بعد محاولات عديدة وجدوا أن العبارات هذه يمكن أن تفسر بما يضيع معناها. و قد وصف أثناسيوس بكثير من الحذق ما قرأه من أفكار البعض إذ كان يراهم يشيرون برؤوسهم و يغمزون بعيونهم كلما اقترح الأرثوذكسيون عبارات كانوا يرون أن لهم فيها مخرجا من قيود معناها.
تاريخ الكنيسة ج3ص59: و قد ثبت أن معظم هذه الاتهامات باطلة و زائفة. فقد تم إثبات أن الأسقف القتيل كان حيا و ذلك بإحضاره إلى المجمع. لكنه كان قد عومل معاملة قاسية بأمر أثناسيوس. و كان هناك بعض الحق في الاتهامات الأخرى، خصوصا الاتهام بخشونة معاملته للميليتيين.
ص60: و كان الإمبراطور، كسابق عهده، ميالا إلى التعاطف معه. لكن يوسابيوس أسقف نيكوميديا، الذي توقع مثل هذه المحاولة، وجه إلى أثناسيوس تهمة أخرى مذهلة، أنه سعى لمنع شحن القمح من الإسكندرية إلى القسطنطينية العاصمة. و هذا ما لم يحتمله الإمبراطور الذي نفى أثناسيوس على الفور.
هامش: في الواقع كان في نطاق سلطة بطريرك الإسكندرية أن ينفذ مثل هذا الأمر. فقد كانت القسطنطينية تعتمد تماما على سفن القمح من مصر التي كانت تمدها بنحو ثمانين ألف أردب قمح يوميا.اهـ
لقد حاول أثناسيوس أن يضغط على الإمبراطور لتمرير عقيدته و فرضها على الإمبراطورية، ليس بقوة الدليل و البرهان، بل بالتهديد بالتسبب في مجاعة.
يعترض كثير من الباحثين على بابوية أثناسيوس، التي اكتسبها في سن صغيرة جدا و بأسلوب غير سليم.
تاريخ الكنيسة ج3ص60: أعلن المجمع عزل أثناسيوس على أساس تدنيس المقدسات و خلل أسلوب انتخابه أسقفا.
كما يتهمونه بالاهتمام بتدعيم سلطانه و بسطه على أكبر رقعة ممكنة، أكثر من اهتمامه بصلب المسائل الدينية.
ص71: و نلاحظ أيضا أن المكاتبات العامة التي كتبها أثناسيوس و يوسابيوس، كل منهما ضد الآخر، لم تكن تهتم بالفكر اللاهوتي بقدر ما كانت تبحث أي الأسقفين- أسقف الإسكندرية أم أسقف القسطنطينية- أحق و أولى بأن يصبح بابا الكنيسة الشرقية.
جاء في كتاب تاريخ الإسكندرية و حضارتها منذ أقدم العصور، الذي قام على تأليفه و مراجعته أربعة عشر أستاذا من أساتذة التاريخ بجامعة الإسكندرية، من بينهم أربعة من المسيحيين، عن أثناسيوس، ج1ص103ما نصه: و الواقع أن أثناسيوس كان شخصية عنيدة، كما كان محبا للسلطة، طموحا، لا يطيق المعارضة، و لقد اتهمه بعض المؤرخين بأنه كان يزيف الوثائق، و يكذب عامدا، و لكن البعض الآخر ترفق به فوصفه بأنه كان يجيد فن إخفاء الحقائق، و اختلاق الأكاذيب.اهـ
هذا هو نص ما ذكره هؤلاء الأساتذة الدكاترة المؤرخون عن أثناسيوس الذي تنسب إليه أغلب العقائد التي يعتقدها الملايين من المسيحيين، و بخاصة في مصر حيث كان بطركا للإسكندرية، و يصفونه بثماني صفات: (1) شخصية عنيدة (2) محبا للسلطة (3) طموحا (4) لا يطيق المعارضة (5) يزيف الوثائق(6) و يكذب عامدا(7) يخفي الحقائق(8) و يختلق الأكاذيب.
تاريخ الأمة القبطية لويزا باتشر ج1ص217: و مع أن أثناسيوس كان عظيما كبيرا، إلا أنه لم يعرف باتساع المدارك و رقة الإحساس.
قسطنطين:
أما الشخصية الثالثة في دراستنا و ربما تكون أكثر محورية و تأثيرا من الشخصيتين السابقتين فهي شخصية الإمبراطور، و قد تعرضنا سابقا لأهدافه من المجمع المقدس، و الآن نتعرض لكيفية تحقيقه لهذه الأهداف.
مظاهر اهتمام الإمبراطور بالمجمع:
قصة الحضارة ج11ص394: ولما انتشر الجدل في هذه المسألة، واشتعلت نيران الخلاف في بلاد الشرق اليوناني، اعتزم قسطنطين أن يقضي عليه بدعوة أول مجلس عام للكنيسة. ولهذا عقد مجلساً من الأساقفة عام 325 في نيقية البيثينية بالقرب من عاصمة نقوميديا، وأعد ما يلزم من المال لنفقاتهم. وحضر الاجتماع عدد لا يقل عن 318 "يصحبهم" كما يقول واحد منهم "حشد كبير من رجال الدين الأقل منهم درجة"، وهو قول يدل على مقدار نماء الكنيسة العظيم. وكان معظم الأساقفة من الولايات الشرقية، لأن كثيراً من الأبرشيات الغربية تجاهلت هذا الجدل، واكتفى البابا سلفستر الأول بأن مثله بعض القساوسة، لأن المرض حال بينه وبين حضور الاجتماع بنفسه.
واجتمع المجلس في بهو أحد القصور الإمبراطوريّة تحت رياسة قسطنطين، وافتتح هو المناقشات بدعوة موجزة وجهها إلى الأساقفة يطلب إليهم فيها أن يعيدوا إلى الكنيسة وحدتها. ويقول يوسبيوس إنه كان يستمع بصبر عظيم إلى المناقشات، ويهدئ من عنف الجماعات المتنازعة، ويشترك في المناقشات بنفسه. وأكد أريوس من جديد رأيه القائل بأن المسيح مخلوق، لا يرقى إلى منزلة الأب، ولكنه "مقدس بالاشتراك" معه لا غير. وقد أرغمته بعض الاسئلة الحاذقة على أن يعترف بأنه إذا كان المسيح مخلوقاً؛ وأن له بداية؛ فإن في مقدوره أن يتحول، وأنه إذا استطاع أن يتحول، فقد ينتقل من الفضيلة إلى الرذيلة.
محاضرات في التاريخ الكنسي المجامع الكنسية ص31: انعقد المجمع في مدينة نيقية في شهر مايو سنة325م، و خصص لاجتماعاته الساحة الوسطى في القصر الإمبراطوري بالمدينة نظرا لاتساعها. بعد أن أعدت فيها المقاعد الكثيرة و وضع في الوسط كرسي من الذهب ليجلس عليه الإمبراطور قسطنطين الذي رغب في حضور جلسات المجمع.
محاضرات في التاريخ الكنسي المجامع الكنسية ص33: و بعد أن أخذ الأساقفة أماكنهم في المجمع حضر الإمبراطور قسطنطين، و جلس عن يمينه البابا ألكسندروس و أثناسيوس رئيس الشمامسة، و أوسابيوس القيصري الذي قام بأعمال السكرتارية. و جلس عن يساره أوسيوس أسقف قرطبة الذي أسند إليه رئاسة المجمع لكبر سنه، و آريوس و أكبر أعوانه، كما اصطف الجمهور على جانبي القاعة.
مركز الإمبراطور في المجمع:
من العجيب أن الإمبراطور الذي يجهل أبجديات العقائد المسيحية، يصير هو الحكم الفصل في النزاعات الكنسية، و حكمه واجب النفاذ دينيا و مدنيا.
مختصر تاريخ الكنيسة ص154: قسطنطين يفصل في الخلافات الكنسية: و يمكن للقارئ أن يحكم من المركز الذي حازه الإمبراطور في مجالس الكنيسة كيف أن مقامها و صفاتها تغيرت كليا. و كم كان غريبا و مدهشا لدى قسطنطين أن يرى أنه سرعان ما أن اتخذ الصليب علما له، حتى استؤنفت لدىمحكمته قرارات صادرة من مجامع أسقفية بخصوص أمور كنسية للبت فيها، و هذا يدل على الحالة التي وصل إليها الإكليروس. و لكن لنلاحظ النتائج التي تضمنها مثل هذا الالتجاء إلى حكم الإمبراطور، و هي أن الطرف الذي تحكم السلطة المدنية ضده و يأبى الرضوخ لهذا الحكم يصبح متعديا على القوانين و الشرائع.
ص154: صيرورة قسطنطين رئيسا ظاهرا للكنيسة، معترفا به في رئاسة اجتماعاتها الدينية الخطيرة.
و لقد دخل الإمبراطور إلى المجمع المنتظر بطريقة أريد منها أن تكون ذات تأثير عظيم مهيب في الجمع الحاضرين.
فلم يذهب إلى المجمع إلا بعد انعقاده بشهر كامل، فبينما يقول الأنبا يوأنس ص31: انعقد المجمع في مدينة نيقية في شهر مايو سنة325م.
يقول ملر ص159: لم يصل الإمبراطور إلى نيس إلا في 3يوليو، و في اليوم التالي اجتمع الأساقفة في صالة القصر التي كانت معدة لهذا الغرض.
و لم يدخل إلى القاعة إلا بعد أن أعد تمثيلية عجيبة لإدخال المهابة في قلوب الحاضرين و إعدادهم و تهيئة نفوسهم لتقبل رئاسته عليهم.
مختصر تاريخ الكنيسة ص159: و نعلم مما كتبه يوسبيوس أن المجمع جلس و السكون مخيم عليه. و بينما هو في هذه الحال إذ بضباط الحكومة العظام و بعض ذوي المقامات الرفيعة يدخلون الصالة منتظرين بارتعاد و خوف ظهور الإمبراطور. و أخيرا دخل قسطنطين، و كان لابسا ثيابا فاخرة، فانبهرت عيون الأساقفة من لمعان الذهب و بريق الحجارة الكريمة التي كانت ثيابه مرصعة بها، و هب المجمع بأسره واقفا ليقدم له الإكرام. و تقدم الإمبراطور إلى كرسي ذهبي أعد له، و وقف بجانبه وقفة الاحترام و الإجلال لهذه الهيئة الروحية الموقرة، حتى طُلب إليه أن يجلس فجلس.
و نستشف من اهتمام الإمبراطور بالمجمع ما قد عول عليه من مكاسب حيث تفرغ له مدة شهرين تاركا مسئوليات الإمبراطورية جانبا.
مختصر تاريخ الكنيسة ص154: و يظهر أن قسطنطين كان حاضرا في معظم جلساته مصغيا بكل أناة و صبر لأقوال المجمع، و متحادثا بكل صراحة و حرية مع أفراده المتعددين.
تاريخ الفكر المسيحي عند آباء الكنيسة ص453: فالمجتمع المسيحي كان يسوده قطبان: فهناك من جهة الأساقفة الذين يناقشون و المجامع التي تسعى إلى التحديد، و لكن هناك من جهة أخرى الإمبراطور الذي يتدخل ليساند البعض، و ينفي الآخر أو يقيلهم، و عندما يتغير الإمبراطور أو يغير رأيه تتغير حياة الكنيسة.
تاريخ الكنيسة ج3ص46: فقد أراد للكنيسة أن تكون ترجمة مثالية للإمبراطورية، فالكنيسة عند قسطنطين يجب أن تعكس وضع الإمبراطورية على أحسن صورة في الانسجام و الهدوء و الصفاء و النمو في الوحدة. و من ثم فقد أراد أن يتحكم في سياسة الكنيسة فيما يختص بصحة المعتقد و الهرطقة. و مع أنه نفسه لم يدّع أنه على دراية متميزة و فريدة في الأمور اللاهوتية و أذعن لحكم الأساقفة، إلا أن نفوذ قسطنطين هو الذي حسم القرار الأخير.
و قد بلغ من قوة سلطانه على المجمع أنه قرر إدخال تعبير لاهوتي خطير إلى نص قانون الإيمان.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص630: و عندما تعرض المجلس لمناقشة قانون الإيمان الذي اقترحه أسابيوس أدخلت عليه بعض التعديلات و العبارات التي تعتبر في غاية الأهمية. فإن البعض يعتقد بأن الإمبراطور قسطنطين، بإيحاء من صديقه هوسيوس، اقترح إدخال الاصطلاح: جوهر الابن من جوهر الآب، أي أنهما متساويان في الجوهر.
و في السطور التالية يحدثنا الدكتور حنا جرجس عن اعتراض بعض الحاضرين على إدخال تعبيرات لا وجود لها في نص الكتاب المقدس و لم يعبر بها المسيح عن نفسه، إلا أن اعتراضاتهم ذهبت أدراج الرياح، و نجح الإمبراطور الوثني في إدخال عقيدة كنسية لا زالت لها السطوة إلى اليوم.
المجمع يحكم و يقرر و يقهر:
و لم يكن حكم المجمع مبنيا على العقل و الحكمة و الدليل، بل كان مبنيا على القهر و الإجبار و سلطة الدولة ممثلة في الإمبراطور رئيس المجمع، كما كان مبنيا على التزوير و التلاعب. أما القهر فنبينه فيما يلي:
قصة الحضارة ج11ص395: ولم يرفض توقيع هذه الصيغة إلا خمسة من الأساقفة، نقصوا آخر الأمر إلى اثنين. وحكم المجلس على هذين الأسقفين وعلى أريوس الذي لم يتزحزح عن عقيدته أو يتوب عما صدر منه، حكم عليهم باللعنة والحرمان، ونفاهم الإمبراطور من البلاد. وصدر مرسوم إمبراطوري يأمر بإحراق كتب أريوس جميعها ويجعل إخفاء أي كتاب منها جريمة يعاقب عليها بالإعدام .
تاريخ المسيحية الشرقية ص57: كذلك تمت إدانة الأريوسيين، و حكم على آريوس و أربعة أساقفة ممن رفضوا التوقيع على نص قانون الإيمان المتفق عليه بالخلع من مناصبهم و النفي أيضا. و كانت هذه أول مرة أو سابقة يتم فيها إيقاع عقاب مدني بسبب هرطقة دينية.
مختصر تاريخ الكنيسة ص160: و أوقعت عقوبات صارمة على أتباع آريوس، و حكم بحرق جميع كتبه، و بأن من يخفي شيئا من كتاباته يعد مجرما جرما عظيما.
تاريخ الأمة القبطية و كنيستها ج1ص205: و على ذلك حرم المجمع آريوس حرما باتا، و أصدر قرارا بنفيه و نفي الأساقفة الذين أبوا التوقيع على هذا القانون.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص631: و بما أن الإمبراطور كان يسعى من وراء هذا المجمع إلى وحدة الإمبراطورية، فقد أمر بحرق كتب آريوس و نفيه.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص643: و لقد أراد الإمبراطور أن يستأصل الداء من أصله، فأمر بحرق كتب آريوس حتى يتجنب المماحكات العقائدية التي تؤدي إلى الانقسامات و الاضطرابات السياسية في الإمبراطورية. ثم أمر بنفي آريوس و أتباعه و اعتبارهم ألد أعداء المسيح، و هنا شعر الأرثوذكسيون بانتصار عظيم.
و الذي يدل على أن المجمع فرض رأيه بالقهر أن كثيرين من رجال الدين رجعوا إلى سابق تعليمهم و عقيدتهم بمجرد تحررهم من سلطان المجمع، حتى أولئك الذين وقعوا بالفعل على قرار المجمع و قانونه للإيمان.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص632: للأسف الشديد، فإن كثيرين من الأساقفة و الآباء الذين اشتركوا في أعمال هذا المجمع عادوا إلى أبرشياتهم و كنائسهم و بدأوا من جديد ينادون بالتعاليم التي كانوا يعلمون بها من قبل هذا المجمع المسكوني. و لقد سبب هذا الأمر اضطرابات كثيرة و معارك كرستولوجية جديدة، و اجتماعات محلية و مسكونية، فلم يستطع إذن مجمع نيقية أن يحل المشكلة حلا نهائيا.
تاريخ الكنيسة ج3ص146: يقول سوزمين المؤرخ اليوناني أن أوليفلاس كان في أول الأمر يتبع الإيمان النيقوي، لكن لسبب ما صار أريوسيا و أخذ معه الشعب كله.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص640: إن آريوس لم يكن الأول و لن يكون الأخير الذي يهاجم عقيدة لاهوت الابن. فحتى بعد موته سيقوم أريوسيون كثيرون ينهجون منهجه و يسلكون في نفس الطريق الذي سلك فيه، و ينادون بتعاليمه.
تاريخ الفكر المسيحي ج1ص643: و لكن للأسف الشديد كانت الحقيقة الواقعة تختلف الاختلاف كله عن القرارات السنودسية و المجمعية. فقد رجع الأساقفة بعد مجمع نيقية إلى أبرشياتهم و القسوس إلى كنائسهم، و بدأ كل منهم يعلم كل منهم يعلم ما كان يعلم به قبلا. بل إن البعض تطرف في الهرطقة التي فاقت هرطقة آريوس نفسه. فمع أن أريوس و بعض أتباعه نفوا، إلا أن الأريوسية بنت عشها في حدائق كثيرين من الأساقفة و الرعاة.
و أما التلاعب فيظهر في استبعاد المخالفين و منعهم من التصويت، كما يقول الأنبا يوأنس ص31: اختيرت مدينة نيقية لانعقاد المجمع لتوسط موقعها بين آسيا و أوربا، بالإضافة إلى جوها الصحي، هذا و لم تختر مدينة نيقوميدية و هي العاصمة الأولى لمقاطعة بيثينية نظرا لما كان معروفا عن الميول الأريوسية لأسقفها أوسابيوس.
كما يظهر في:
تكريم الموافقين و المنافقين:
قصة الحضارة ج11ص396: واحتفل قسطنطين بانفضاض المجلس بأن دعا جميع الأساقفة الذين حضروه إلى وليمة ملكية، ثم صرفهم بعد أن طلب إليهم ألا يمزق بعضهم أجساد بعض.اهـ
و لما صارت الكنيسة ربيبة الدولة، استخدمت سطوة الدولة في إبادة مخالفيها. يقول أندرو ملر ص117: و لكن، مع الأسف، قد حدث فعلا ما حذر الرب منه تلاميذه كما تدل قائمة الشهداء المطولة، إذ أدخلت الكنيسة العقوبات الشديدة لتأديب المذنبين، فكانت تسلمهم إلى السلطة المدنية ليموتوا حرقا بالنار أو قتلا بالسيف.
قصة الحضارة ج11ص389: ولما توطدت دعائم قوته أخذ يجهر تدريجياً بمحاباة المسيحية، فمحا بعد عام 317 من نقوده واحدة بعد واحدة ما كان على وجهها من صور وثنية، ولم يحل عام 323 حتى كان كل ما عليها من الرسوم نقوشاً محايدة لا هي مسيحية ولا وثنية. ومن المراسيم القانونية الباقية من عهده مرسوم مشكوك فيه ولكنه لم يثبت كذبه، يخول الأساقفة المسيحيين حق الفصل فيما يقوم في أبرشياتهم من منازعات قضائية، وأعفت قوانين أخرى أملاك الكنيسة العقارية من الضرائب، وجعلت الجماعات المسيحية شخصيات معنوية قضائية، وأجازت لها امتلاك الأرض وقبول الهبات، وجعلت الكنيسة هي الوارثة لأملاك الشهداء الذين لم يعقبوا ذرية. وكذلك وهب قسطنطين أموالاً إلى المجامع الدينية المحتاجة إليها.
و يظهر أكثر في:
تزوير التصويت:
و هذا السلوك نستشفه من فعل كبار رجال الكنيسة، تقول المؤرخة البريطانية لويزا باتشر أن البابا كيرلس الكبير استعد للمجمع الذي حرم نسطور، لا بالكتب و المستندات و الحجج الكتابية، بل بشيء آخر مختلف تماما: فتقول في كتابها تاريخ الأمة القبطية و كنيستها ج2ص30: فشرع كيرلس يستعد لهذا الجمع، و لكنه كان يخشى من عواقبه، لأنه داخله الريب في غاية هذا المجمع و أغراضه. قيل إن كيرلس أخذ معه إلى القسطنطينية مقدارا وافرا من الذهب الوهاج، دفعه رشوة لموظفي البلاط الإمبراطوري الذين ظن فيهم المقدرة على مساعدته للحصول على نتيجة مرضية، كذلك اصطحب معه أكثر من خمسين أسقفا مصريا في مقدمتهم ذانك الناسكان المشهوران و هما شنودة الأخميمي و بقطر السوهاجي، ثم استقبلهم ممنون أسقف أفسس- و هو مصري الأصل- و معه عديد من الأساقفة الذين ضموا أصواتهم إلى أصوات إخوانهم المصريين، حتى فاقوا في العدد أتباع نسطور و مريديه، فلذلك اضطر هذا إلى عدم الحضور في المجمع، بل شكل مجمعا من رفاقه، و حكم على كيرلس و ممنون بالحرم و العزل من الوظائف الكهنوتية.
ص32: و من الذين ساعدوا كيرلس في هذا المجمع بوطيخوس رئيس أحد الأديرة، الذي بعد هذا الزمن بعشرين سنة حكم عليه بالحرمان لاتهامه بالهرطقة.
ص32: كذلك تمكن كيرلس من برطلة نصف بطانة الإمبراطور بغاية ما يكون من التبذير و الإسراف، حتى أنه استنفذ خزينة الكنائس المصرية في هذا الصدد، و بهذا و ذاك تم له ما يتمناه و فاز بمبتغاه.
و البرطلة المظلة، و البِرطيل في الأساس الرشوة و في القاموس بَرْطَلَه فتبرطَل: رشاه فارتشى ( لسان العرب ج 11 ص 51 )، و تقول:
ص 31: و لكن هذين الحزبين الدينيين استعملا الأغراض السافلة و الغايات الدنيئة ليفوز الواحد منهما على الآخر، فكانا يكتبان كتابات ضد بعضهما و يدفعونها إلى الشحاذين يجولون بها في الشوارع و الأزقة، و كانا يدفعان الرشوة لكل من يساعد جانبا منهما، و النتيجة أن كل جماعة كانت تشتكي مر الشكوى من المعاملة التي تعاملها بها الجماعة الأخرى.
ماذا خسرت الكنيسة في مجمع نيقية؟
من المعلوم أن قسطنطين لم يكن محسنا متطوعا بما أغدقه على الكنيسة من إنعامات، و لم يكن سفيها أبلها عندما أنفق أمواله بسخاء على مؤيديه من رجالات الكنيسة، و لكنه كان تاجرا و مقايضا بارعا، وضع معادلة كثيرا ما طبقت في تاريخ البشر: الدين مقابل المال. قال للكنيسة بلسان حاله: اتركي دينك، لوثيه و مرغيه في أوحال الوثنية، أعطيك الأموال و الأطيان و الضياع، و كل متاع الدنيا، أعطيني سلطانك على أتباعك، اجعليهم عبيدا لي بسلطانك الديني، أجعلهم عبيدا لك بسلطاني المدني.
يقول أندرو ملر إن المسيحية الحقيقية قد اندثرت و تلاشت بفعل قسطنطين و مجمعه، فقال تحت عنوان مؤثر و معبر: اختفاء الصفات الحقيقية للكنيسة.
مختصر تاريخ الكنيسة ص150: يمكن لنا الاستدلال من التاريخ نفسه على أن العصر الذي كان يعذب فيه المسيحيون و يقضون نحبهم قتلا بالسيف أو حرقا بالنار، كان أجزل فائدة و أكبر نفعا للمسيحية من العصر الذي كانوا يجلسون فيه على موائد الإمبراطور و تغدق عليهم الإنعامات الملكية العديدة.
ص151: أصبح الأساقفة ندماء القصر الدائمين، يجالسون الإمبراطور. و أصبحت الأمور الكنسية الداخلية أمورا تختص الحكومة بالنظر فيها. و تسلط الأسقف، لا بما له من سمو المقام في الحياة المسيحية، بل بسلطان وظيفته و سطوة مركزه.
ص151: و إذ أصبح مجرد الاعتراف بالمسيحية هو الطريق الأكيد للوصول إلى الثروة و الجاه و الإنعامات الجزيلة أقبل الناس من كل الطبقات يتهافتون على المعمودية. و في عيدي الفصح و يوم الخمسين كانت تحتشد الألوف لابسين الثياب البيض حول الكنائس العديدة منتظرين عمادهم. و كان العدد عظيما جدا و المنظر هكذا عجيبا.
ص152: و قد وعد الإمبراطور أن يعطي كل مخلّص حديث من الطبقات الفقيرة عشرين قطعة ذهبية و ثوبا أبيض. و بواسطة هذه الظروف و تلك الوسائل كمل سقوط الديانة الوثنية و قضي عليها القضاء الأخير، و تقدمت المسيحية في العالم، و اعتلت أريكة عرش العالم الروماني.
ص146: فالكنيسة الاسمية وضعت يدها في يد العالم و تصادقت معه و شاركت ما يتمتع به. و لما لم يكن للعالم أن يسمو إلى المستوى العالي الذي للكنيسة، فكان من الضروري أن تنزل هي و تنحط إلى مستوى العالم الخاطئ، و هذا ما حدث تماما.
ص144: و وا أسفاه، لقد نجحت حيلة العدو، إذ راقت للكنيسة حماية قسطنطين، فوضعت يدها في يد العالم، الذي أسقطها معه إلى"حيث كرسي الشيطان" فخسرت مقامها كشاهدة أمينة.
لقد تحولت المسيحية بالكامل لتكون ديانة الشيطان الوثنية، كما يقول ول ديورانت ج11ص276: وقصارى القول أن المسيحية كانت آخر شيء عظيم ابتدعه العالم الوثني القديم.
و هكذا اجتمعت إرادة مجموعة من شياطين الإنس، فانحرفت بالكنيسة، بدلا من أن تكون كنيسة المسيح، صارت كنيسة الشيطان. نرجو أن نكون- بما ذكرنا من الأدلة و البراهين- قد سلطنا الضوء على معلومات مخفية، و أظهرنا شيئا من الصفحات المعتم عليها، و نكون قد ساعدنا أشخاصا يريدون أن يتخلصوا من قيود تسلطت عليها بالباطل و الخداع.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182 الصافات)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق