الخميس، 25 ديسمبر 2014

مكانة بولس شاؤول عند النصارى، وأفكاره، وعقائده ، وموقف أتباع عيسى عليه السلام الحقيقيين


ما من دراسة للمسيحية إلا وقد أولت اهتماما خاصاً وتناولت شخصية بولس بالدراسة والتحليل – مؤيدة له أو معارضة – وهو شخصية عالمية .. يعيش الملايين على ما غرسته من أفكار في الديانة المسيحية التي اعتنقها بعد أن كان يهودياً معادياً لها ... وقد كان التلاميذ يتحاشونه ويبتعدون عنه إلا أن برنابا توسط له عندهم وأقنعهم بقبوله وشهد له ، وأقدم النصوص التي يقدسها المسيحيون هي رسائل الرسول بولس ، المتوفى نحو (67م) في أواخر عهد الإمبراطورية نيرون ( 54 – 68م ) ، وتكاد لا تذكر أصول المسيحية ؛ إلا وذكر شخص بولس فهو شخصية أساسية بعد عيسى (عليه السلام) ، وإذا أردنا أن نتحدث عن من أرسى دعائم المسيحية الآن فلا بد أن نتحدث عن بولس ، والمسيحيون أنفسهم يعتبرونه المفسر الحقيقي لمهمة عيسى (عليه السلام) ، وقد زعم هو أن نظرياته ليست افتراء منه أو اجتهاداً شخصياً له ، بل هي وحي ينزل عليه ، وكان يدعي أنه يرى عيسى بعد رفعه ، مع العلم انه لم يكن يراه ويلتق به في حياته ، ومما لا شك فيه أن مفاهيم بولس ونظرياته قد تأثرت بها الأناجيل ، حتى إن البعض ذهب إلى بولس هو المؤسس الحقيقي للنصرانية ، ويصل هيم ماكبي في كتابه بولس وتحريف المسيحية إلى أن : ( بولس لا عيسى (عليه السلام) هو مؤسس هذه المسيحية ، إن الأسطورة الأساسية في هذا الدين تقول بموت كائن إلهي للتفكير عن خطايا البشر ، وان الخلاص الوحيد هو الأيمان بهذه التضحية والتوحد الديني بها ، ولقد استقى بولس بعض ذلك من المصادر الهيلينية وافترى هذا الدين كما خلط ذلك بما استوحاه من الغنوصية والأديان الباطنية ).

أما انقلاب بولس من اليهودية إلى المسيحية فتتفق عليه المصادر المسيحية ويرى كثير من الباحثين ( أن عداوة بولس للمسيحية هي التي دفعته ليتظاهر بالدخول فيها وليستمر في حربها بسلاح جديد ، سلاح التهديم من الداخل بإفساد معالمها وطمس مظاهرها).
يقول محمد أبو زهرة  وقد كان بولس نشيطاً دائم الحركة لا يكل وكان المعي شديد الذكاء ، بارع الحلية وكان شديد التأثير في النفوس ، وبهذه القدرة والصفات ، استطاع أن يجعل نفسه محور الدعاء للمسيحية وقطبهم ، وان يفرض عليهم ما ارتأه وان يتخذوا قوله حجة ).
أفكار بولس
وقد استحدث بولس أفكاراً ومستجدات لم تكن في الأساس من العقيدة النصرانية ، منها أن المسيح ( أزلي الوجود وأن ظهوره في فلسطين لم يكن هو بداية وجود المسيح بل هو موجود قبل كل الوجود ). وأن المسيح عليه السلام (شريك لله في الطبيعة والجوهر )، ( كما نقل المسيحية من ديانة محلية خاصة باليهود إلى ديانة عالمية لجميع الأمم )، لكنه لم يجعلها ديانة عالمية بالخبر كما قال المسيح عليه السلام ، بل جعلها ديانة منفصلة عن ديانة موسى وشوش على الخبر ، فالمسيح عليه السلام قال في إنجيل متى: ( ما جئت لا نقض الناموس )، وقال في إنجيل يوحنا مبشراً بمحمد ( صلى الله عليه وسلم ) : ( إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي ، وأنا أطلب من الأب ،فيعطيكم معزياً آخر ، وليمكث معكم إلى الأبد ).
وقد فتح بولس وأتباع المسيح الآخرين ميداناً واسعا من الجدل حول موضوع المسيح : هل المسيح عليه السلام إنسان ؟ أو هو رب ، أو هو من خلق الرب؟ هل هو والرب سواء ؟، أو هو منفصل عن الرب ؟! فهذه الأسئلة وأمثالها مما يتصل بطبيعة المسيح شغلت رجال الكنيسة ولازالت حتى اليوم ، وجعلتهم جماعات كل جماعة ترى أن رأيها في طبيعة عيسى (عليه السلام) هو الصواب ، وإنها على الحق وغيرها على الباطل ، فظهرت المذاهب شرقية وغربية وانقسمت الكنائس.
يقول مايكل هارت : ( وقد طور فكرة المسيح من الناحية اللاهوتية والناحية الإنسانية جعلها تتناسب مع فكرة الإنقاذ القديمة ، فقدم آداباً مستحدثة في طابع قديم مألوف وبهذا فصل دعوة عيسى عن اليهودية ... واقتبس بولس من الوثنيات كذلك أعياد رأس السنة ، وعيد القيامة ، وعيد الغطاس ، وأطلق عليها مسميات جديدة ، فعيد الربيع عندهم (Ostara ) أصبح عيداً لخروج عيسى من القبر (Ester) ، وطقوس السر المقدس آخذت مكان معبد التضحية عند اليهود وعيسى أصبح ( أبن الله واحتلت صورة العذراء والمسيح مكاناً مقدساً احتلته قديماً صورتا حورس وأزيريس ) (Herus and osiris)، ولما كانت المسيحية تعتبر بولس من أهم الرسل المعتمدين لديها ، بل هو عند بعض المسيحيين يعتبر مساوياً أو أرقى درجة من كتبة الأناجيل ، لذلك فإن رسائله معتبره عندهم ، وقد كتبها وهو في السجن إلى أتباعه البعيدين عنه ، وكان قد قضى عشر سنين في كتابتها ، حيث كان يمليها بدون مراجعة ولا تنقيح ، واعتبرها البعض من أقوى وأبلغ ما كتب من رسائل في أدب العالم.
وكان عماد بولس في رسائله أن المسيحية ليست ديناً لليهود بل هي دين عالمي وكان بولس أول من قال بهذا ونادى به.
وعن هذه الرسائل وحقيقتها وهل هي وحي ؟ فالحقيقة أنها عبارة عن رسائل شخصية في شكلها العام ، وقد تبدأ أحياناً بالتعريف عن نفسه وأنه رسول المسيح ، يحيى فيها المرسل إليه ، ثم يختمها بالحديث عن الأشواق والقبلات ، وقد احتوت بعض رسائله مطالب وشكاوى وأموراً شخصية بحته شأنها في ذلك شأن الرسائل التي يمكن أن يكتبها أي شخص مثل  الدواء الذي تركته في تراويس عند كاريس أحضره متى جئت ) .
ولعل ذكاء بولس قد قاده إلى أنه إذا أدعى النبوءة فسيعلو عليه المسيح بوصفه صاحب الرسالة ، وقد حذر من أنبياء كذبة يأتون من بعده ( فجعل بولس المسيح إلهاً حتى لا يقال إنه - أي بولس – إنما هو رسول لرسول ، ثم أدعى لنفسه الرسالة خالصة من دون الناس ليجعل نفسه حق التشريع وليتاح له نقد تعاليم عيسى وهدم المسيحية الحقيقية التي أساسها التوحيد الحقيقي دون سواه) ووفقاً لاعتراف بولس نفسه أنه لم يبعث رسولاً من الله ، بل زعم ان المسيح عليه السلام هو الذي ظهر له عندما أفاق من الإغماء وأن المسيح هو الذي كلفه بالرسالة:( فقال من أنت ، قال الرب أنا يسوع) .
قد حرص بولس دائماً على أن يضع نفسه بين أفضل رسل المسيح ، وكان يرى أنه يستطيع التصدر في الدعوة المسيحية وحيدا ، دون ما حاجة إلى معاونة أو توجيه ، وها هو يقول في رسائله : ( ألست أنا رسولاً ، ألست أنا حراً ، آما رأيت المسيح ربنا).
والحق أن بولس هو المؤسس الحقيقي للمسيحية الحالية ويؤكد هذا الرأي ما ذهب إليه مايكل هارت قائلا : (إن المؤسس الحقيقي لهذه الديانة هو بولس وليس المسيح ، وليس واضحاً ما كان سيئول إليه أمر المسيحية لولا بولس).
وهكذا سار بولس في دعوته إلى المسيحية وفق مبدأه الذي اختطه لنفسه ، (وهو أن يكسب أكبر عدد من الأتباع بصرف النظر عن حقيقة قبولهم للعقيدة الجديدة ، وأيمانهم بها أيماناً خالياً من شوائب عقائدهم السابقة ، وقد نتج عن ذلك أن دخل كثيرون في المسيحية على يد بولس بأفكارهم وعقائدهم القديمة ، وأغلبها عقائد وثنية) ، والراجح أنه ظل على يهوديته رغم تحوله للمسيحية التي فضلها على اليهودية (وبقى يهودياً من حيث الجوهر، يهودياً في خلقه وصرامة مبادئه) كما ذهب إلي ذلك ديورانت ، في كتابه قصة الحضارة .
من هو بولس ؟
يتحدث التفسير التطبيقي للكتاب المقدس عن بولس الذي شكل تاريخ المسيحية بعد المسيح عليه السلام ، وهو في هذا التفسير يظهر كالأتي:-
( غيّره الله من مضطهد للمسيحية إلى كارز ومبشر بالمسيح ، كتب رسائل إلى مختلف الكنائس ، وصارت رسائله جزءاً من كتاب العهد الجديد ، كثيراً ما يسمى بولس باسم رسول الأمم ، وأنه ولد في طرسوس وتعلم كفريسي وعمل كصانع خيام ، وخدم كمبشر ، وقد عاصر استفانوس ولوقا وبرنابا وتيموثاوس) .
يقول شلبي في كتابه المسيحية ،عن بولس ولد في طرسوس حوالي سنة عشرة ميلادية وكان من الفريسيين ، وطرسوس كانت تعج بالمبادئ الدينية والأخلاق الرواقية التي انتقلت إلى مسيحية بولس ، وكان في طرسوس كما في معظم المدن اليونانية إتباع للأرواقية وغيرها من العقائد الخفية ، (وهم يعتقدون أن الله الذي يعبدونه قد مات من أجلهم ثم قام من قبره وانه إذا دعي بإيمان حق وصحب الدعاء الطقوس الصحيحة ، استجاب لهم وأنجاهم من الجحيم ، وأشركهم معه في موهبة الحياة الخالدة المباركة) .
يقول شارل جنيبير عن ميلاد بولس : ( ولد بولس من عائلة يهودية أقامت بمدينة طرسوس في سيليقيا ، وتقع في نهاية حدود سيليقيا وكانت حلقة الاتصال بين هضبة آسيا الصغرى وبين الشام ، ومفرق الطرق التجارية الهامة التى تجلب إليها في آن واحد ، من اليونان وايطاليا وكابا والشام وقبرص وفينقيا ومصر).
وقد كان له اسمان ، اسم يهودي عبري وهو ( شاول ) أي مطلوب واسم روماني وهو ما صار اسمه (بولس) أي الصغير كما جاء في سفر أعمال الرسل:(وأما شاول وقد صار أسمه بولس ) ، ولعل أسباب اشتهاره ببولس فقط هو انه كان يفتخر بجنسيته الرومانية ، ويفضل أن يعرف بالاسم الروماني بولس.
ورغم أن شخصية بولس من الأهمية بمكان في التفكير المسيحي ويتمثل ذلك في أن الملايين يعيشون على ما غرسه من أفكار ،إلا أن المعلومات عن بولس في الأناجيل الأربعة تكاد تكون معدومة ولا تغني شيئاً ، ولعل ذلك بسبب أن الأناجيل كانت تتناول فترة حياة المسيح عليه السلام ، وفي هذه الفترة كان بولس عدواً لدوداً للمسيحية ، فجاءت الإشارات في الأناجيل لهذه العداوة والمعلوم أن بولس لم يشهد شيئا من حياة المسيح ولم يقابله ، بل ولما جاء إلى أورشليم وحاول الالتصاق بالتلاميذ كان الجميع يخافه غير مصدق ، فأخذه برنابا واحضره إلى الرسل وحدثهم كيف إن بولس أبصر الرب في الطريق وأنه كلمه وكيف جاهر في دمشق باسم يسوع. وقد زعم بولس أنه بمعجزة إلوهية تحول من أحد ألد أعداء المسيح (عليه السلام) ، ودعوته إلى ناصر من كبار أنصاره أو أكبرهم على الإطلاق .
بيئة بولس ونشأته العلمية والدينية.
المعلومات المتوفرة بشأن بولس تأتى من مصدرين : الأول ما يذكره بولس عن نفسه في الرسائل التي خلفها ، والثاني ما يقوله سفر (أعمال الرسائل) بشأنه ، وعن أوثقهما يقول كمال الصليبي: ( ان كان هناك تناقض بين المصدرين فان الأول يجب اعتباره الأوثق لكونه من قلم بولس نفسه ).
المعروف أن الذي وضع سفر ( أعمال الرسائل ) ، هو الذي وضع أنجيل لوقا.
وما يقوله بولس شخصياً عن نفسه يتلخص في الآتي:-
كان بولس ( عبرانيا) و ( اسرائيلياً ) ، و( فريسياً ) من سبط بنيامين ، وبولس رجلاً متعلماً ضالعاً في عدة لغات ، وعلي عكس الرسل من تلاميذ يسوع الذين كانوا بسطاء وعديمي العلم ، وقد تحول بولس من مضطهد لإتباع يسوع إلى رسول يبشر به عن طريق رؤيا ، وكان بولس في يهوديتة يتزعم شرذمة من حماة الهيكل المتعصبين وغدا يجوب الطرقات والمخابئ وينتهك حرمات الدور والمنازل وينتزع النساء من الخدور والأطفال من أحضان الأمهات ، ويسطو على الكنيسة ، يدخل البيوت ويجر رجالاً ونساء ويسلمهم إلى السجن ، ومن ثم انتقل بولس من عدائه للمسيحية إلى مطاردة اليهود نظير فعله هذا الذي لا يوافقهم واستقبله بطرس ، ورحب به برنابا وقد زكر ديورانت ، ول ، في قصة الحضارة أن بولس ( واختفى من طرسوس ثماني سنوات لا يعرف التاريخ عنه شيئاً).
وعن تعليمه فيقال: ( أغلب الظن أنه تلقى العلوم الخاصة بأصول اليهودية واستوفاها ، وتدرج في الدراسات الدينية إلى أبعد حدودها ، ولكن في غير القدس من المدن ، فلم تكن فلسطين هي الموطن الوحيد للعلماء اليهود ، فقد كان بينهم من يقيم بالإسكندرية وبإنطاكية ، والدلائل تشير إلى أن بولس قد أكمل دراساته بهذه المدينة الأخيرة) أنظر : (شارل جيينير ، المسيحية ) ويبدو أن هناك شبه إجماع على أنه تلقى تعليمه في الإسكندرية ، مع ترجيح انه لم يكن من رواد جامعة طرسوس ولا من دارسي الفلسفة الرواقية ، فقد كفاه انه عاش سنين شبابه في هذا الوسط الذي تشبع بالتراث اليوناني على أيدي أساتذة الفلسفة الذين جمعوا بين التفكير الفلسفي والأسلوب الخطابي).
كان يتحدث بلغة اليونان ويكتبها منذ نشأته الأولى ، وينتمي إلى عائلة ذات شأن ويحمل لقب ( مواطن روماني ) وراثة عن أبيه. والشئ الذي يبدو غير قابل للجدل هو : أن تطور بولس نحو المسيحية لم يتم بالقدس ، وان مذهبه لم ينشأ من الاتصال بالحواريين الأثني عشر ، كما أن بولس لم يكن بمؤسس المجتمع المسيحي الأول في المهجر، ( وأعمال الرسل ) ، تشير إلى إقامة بعض الطوائف من الذين اعتنقوا دين عيسى بين الجاليات اليهودية بقبرص وأنطاكيا ، ولا تدين هذه الطوائف بشئ لبولس ، وكذلك لم يكن له أي فضل في تأسيس الكنيسة الأولى بروما.
عموماً فالملاحظ في شخصية بولس أنه متقلب المزاج وغير مستقر يسعى لمنفعته الشخصية ، ولعل أقرب دليل هو انتقاله الفجائي من العداوة إلى الشديدة للمسيحية للدعوة إليها كما يراها هو ، ( وقد تضمنت تعاليم لاهوتية معقدة لا تفهم ببساطة ، ومن ثم أفضت هذه التعاليم إلى تأويلات مختلفة أثارت البلبلة بين المسيحيين حتى في زمن بولس نفسه) ، وفي ذلك يذهب ديورانت إلى أنه :(لقد أنشأ بولس لاهوتا لا نجد له إلا أسانيد غامضة أشد الغموض من أقوال المسيح ، كما أضاف بولس إلى هذا اللاهوت الشعبي بعض آراء صوفية غامضة كانت قد ذاعت بين الناس بعد انتشار سفر الحكمة وفلسفة ( فيلون ) أ هـ
إذن فبولس كان أسمه الأول ( شاؤل ) وهو من مواليد طرسوس ، وقد تعلم في أكاديمية القدس الفريسية من بداية حياته وتلقى تعليمه في الإسكندرية ، وبولس لا يذكر شيئاً من ذلك في رسائله ، والعهد الجديد يقدم لنا صورة متناقضة عن بولس في الأيام التي سبقت اعتناقه للمسيحية ، فمرة كان فريسياً كما يذهب إلى ذلك لوقا ، مرة كان عمل لحساب الكاهن الأكبر ألصدوقي بينما الصدوقية طائفة معادية للفريسيين عداء شديداً ، أما رسائله - بولس – فهي أقدم من الأناجيل حيث كتبت الأناجيل ما بين ( 70و100م ) ، بينما نجد أن نصوص ( رسائل بولس ) قد كتبت بين ( 50 – 60 م ) ، ولا ريب أن كتبة الأناجيل قد تأثروا بأفكار بوليس وتأويلا ته لأعمال عيسى (عليه السلام).
عقائد بولس
ذكرنا أن بولس كان يزعم أن نظرياته ليست افتراء منه أو اجتهاداً شخصياً له ، بل إنها الوحي الذي أنزل عليه ، وقد أدعى انه كان يرى عيسى بعد رفعه ( وكان بولس يردد أن رؤاه الصوفية أهم من المعرفة الشخصية لعيسى (عليه السلام) ، أيام حياته الأرضية
وقد أدخل بولس معتقدات جديدة إلى النصرانية ، ولعل العبارة تكون أدق إذا قلنا أن بولس غير النصرانية عما هي عليه وقت بعثه عيسى (عليه السلام) بها ، وأهم هذه العقائد:
1/ القول بتعدد الإلهية.
2/ أن عيسى (عليه السلام) أبن الله نزل ليضحي بنفسه للتكفير عن خطيئة البشر ، وأنه عاد مرة أخرى إلى السماء ليجلس على يمين أبيه.
وقد أدعى بولس أن عيسى (عليه السلام) علمه هذه المعتقدات مباشرة) .
كما أنه : ( أول من ابتدع اللاهوت والنا سوت في شأن المسيح (عليه السلام) وكانت قبله كلمة النصارى واحدة ، وهي أنه عبد الله ورسوله) أنظر  أبن تميمة ، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ).
وقد تضمنت رسائل بولس عقائده الجديدة التي بني عليها مسيحيته كما تعتبر رسائله المصدر الأساس الذي تعتمد عليه مسيحية اليوم ولعل ذلك بدرجة تفوق الأناجيل نفسها ، وبولس هو الذي جعل عيسى (عليه السلام) مسيح اليهود الذي هو المسيا والذي ينتظرونه لخلاصه ولم يجعله مسيحاً غير المسيا والدليل على ذلك أن نبوءة سفر التثنية التي استدلوا بها على مجئ المسيح الذي هو المسيا ، يقول النصارى فيها إنها: ( تنطبق على عيسى (عليه السلام) ، ويقولون : لا مسيح من بعد عيسى إلى يوم القيامة) ، ثم قام بتغيير نسب عيسى من هارون إلى داود ، لان اليهود العبرانيين يزعمون أن المسيح المنتظر، سيكون من سبط يهوذا ، من نسل داود ، فغير نسبه ، ليقول أنه هو المسيح الموعود به ، ولا مسيح غيره إلى يوم الدين ، ووضع بولس أسس فريضة ( القربان المقدس) وتعني ( العرفان ) أو الشكر أو ( العشاء الرباني ) ، والعشاء الرباني ( يعلن فيه المسيح عن نفسه أنه الخبز الحي الذي تتغذى به نفوسنا لقبول الحياة الأبدية).
والعلامات تتمثل في الخبز والخمر فكما الخبز يسند ويتغذى به الجسم فان جسد المسيح هو الغذاء والخمر تقدم كرمز للدم ،( فالخبز المكسور والخمر المتدفق يصوران بدقة ما يصل لنا بواسطة جسد المسيح ودمه) أنظر :جون كلفن ، المسيحية الكتابية .
ويعتقد النصارى أن هذه الفريضة أسمى بكثير من استيعاب العقول وينبغي التسليم بها وتقبلها دون جدل ، فالرب يعلن أن جسده ودمه غذاء وشراب للنفوس ، فتسلم النفوس له لكي يطعم بهذا الغذاء وينتعش بهذا الشراب. وقد برهن المؤرخ هانس ليتيرمان أن القربان المقدس ( لم يكن معروفاً بين طقوس النصارى في القدس) كما لا نجد لدى إتباع كنيسة القدس أي أشارة إلى أكل جسد عيسى (عليه السلام) ، أو شرب دمه ، وإنهم لم يمارسوا أبداً هذا الطقس المقزز ، ولعل مما يؤيد ذلك هو رفض أصحاب الكنيسة الأولى التي أسسها يعقوب ( أخو المسيح ) وبطرس، هذه العقائد التي أرساها بولس ، وقد رافق كلاهما المسيح طوال حياته وكانا على علم به ومعرفة بمقاصده بخلاف بولس الذي يجمع الكل أنه لم ير المسيح إلا في الرؤيا التي زعمها.
ثم إن بولس هو الذي قال بالجبر وصرح به، وقد خلص إلى أن الإيمان بالمسيح ربا مصلوباً يكفي في دخول الجنة وليس من فائدة من العمل الصالح لا على شريعة موسى ولا على وصايا المسيح ، وهذا مضاد لفكر المسيح نفسه وتعاليمه ، وهو الذي جعل مدار النجاة في الآخرة على الإيمان والأعمال معاً ، ونقل بعض الشعائر من المدلولات الحسية إلى المدلولات النفسية الرمزية ولعله في ذلك قد خاف من انه إذا اشترط الختان ومراسم البيع والهياكل لقبول الوثنيين في الدين الجديد فان ذلك قد يشكل عائقاً يصدهم عن الإصغاء إليه .
بولس وعقيدة الثالوث
أما عقيدة الثالوث والتي ادخلها بولس في المسيحية وقد وجدت معارضة شديدة، وكان يتصدى لها قائلاً : ( كل من ينكر الابن ليس له الأب أيضاً ومن يعترف بالابن فله الأب أيضاً ، واحذروا الذين يضلونكم ) ، والناظر للأناجيل الأربعة بخلاف يوحنا لا يجد مسألة إلوهية المسيح ولو أن لهذه الإلوهية أصلاً في الديانة المسيحية لما كان من الممكن أهمالها في هذه الأناجيل الثلاثة ، ولان يوحنا قد جاء متأخراً عن الثلاثة الباقين فيبدوا أنه استدرك مخالفاً الطبقة الأولى والذين هم أعلم بحقيقة المسيح وأدرى بأخباره ، فجاء يوحنا دليلاً ناطقاً يثبت إلوهية المسيح حتى يتسنى للقائلين بها أن يحتجوا بكتاب يدل على مسألة الإلوهية المفتراة. وقد حاول بولس في دعوته الثالوثية التمسك ( بفكرة فلسفية هي خليط من تعاليم المدارس الفلسفية الإغريقية والإسكندرية الشرقية من جهة وثقافات الهند وفارس وأن يصهرها كلها في بوتقة واحدة) .
ويرى هايم ماكبي أن بولس قد أستقى بعض عقائده مثل الخلاص الوحيد من المصادر الهلنية ، كما خلط بالمسيحية ما استوحاه من الغنوصية والأديان الباطنية ، ولا سيما من عبادة ( أتيس ) ، ويذهب إلى أن بولس لم يكن حاخاماً فريسياً على الإطلاق ، بل كان مغامراً من أصل غير واضح ، وكان في خدمة الصدوقيين يمارس مهمات أمنية بوليسية لخدمة الراهب الأكبر ، وذلك قبل اعتناقه المسيحية ، كذلك لم يكن يعرف تعاليم الفريسيين معرفة جيدة ، وقد شوه بولس سيرة حياته عمداً ليزيد نشاطه التبشيري فعالية .
ومسألة إلوهية المسيح لم تكن محل اجتماع النصارى قبل مجمع نيقية عام 325م ، ولكن منذ انعقاد هذا المجمع أصبح الأيمان بإلوهية المسيح الموقف الرسمي للكنيسة ، وصار المسيح الإله حسب رأي الكنيسة كلي الوجود ، كلي العلم ،كلي القدرة وذو وجود سرمدي سابق وأزلي لا يتغير ، وهم بناء على هذا يرون أن المسيح قابل للعبادة. وهكذا حول بولس النصرانية إلى ديانة كبرى عالمية ، وألف بولس أربع عشرة رسالة في العهد الجديد وجعل يكرز بالمسيحية التي رآها وفق أفكاره .
وعلى هذا يعتبر بولس هو من وضع الديانة النصرانية المعروفة اليوم ، والتي تختلف وتتناقض تماماً مع الديانة الأصلية التي دعا إليها المسيح وتخالف أصل ما جاء به ، وخلاصة ما أحدثه بولس في المسيحية أن : نقلها من التوحيد إلى التثليث ودعا إلى إلوهية عيسى وإلوهية الروح القدس ، واخترع قصة الغداء للتكفير عن الخطيئة ، ( وجعل يوم الأحد مقدساً عند المسيحيين وبحجة أنه قام فيه من القبر بدلاً من يوم السبت الذي كان مقدساً عند اليهود) ، وجعل التشريع حقاً للرؤساء الروحانيين بعد أن كان للأنبياء والرسل ، هذا إلى جانب تأثيره الكبير في مصادر الديانة المسيحية.
موقف أتباع عيسى الحقيقيين من أفكار بولس
قد وجدت أفكار بولس معارضة شديدة من أصحاب الكنيسة الأولى و بولس لم يكن موثوقاً به وبمواقفه حتى توسط برنابا له ، ومن ثم قبوله ، وقد دار صراع عنيف بين بولس وأنصاره من جانب وبين المسيحيين الحقيقيين من جانب آخر، ويبدو أن الصراع قد طال ممتداً لقرون حتى بعد وفاة بولس ، وقد وضح بولس نفور الشرق من تعاليمه صراحة ولم يكن يخفي ذلك وفي رسالته لتلميذه تيموثاوس يقول:( أنت تعلم ان جميع الذين في آسيا ارتدوا عنى ) وقد انفض عن بولس أكثر أتباعه وأنصاره ويبدو أن ذلك في حدود سنة 64م زمن كتابة الرسالة أعلاه ، والظاهر أن أسباب الخلاف بين الحواريين القائلين بالتوحيد ـ - وهم أغلبية في ذلك الوقت - وبين القائلين بإلوهية المسيح قد ضاعت تفاصيله ودمرته يد الغوغاء كما دمرت إنجيل عيسى الحقيقي،ولم تظهر إلا في بعض النصوص من إنجيل ( برنابا).
ويؤكد ذلك احمد شلبي قائلاً : ( الأناجيل والأبحاث التي تعارض اتجاه بولس فنيت إلى الأبد ، وفي قمتها إنجيل المسيح ثم ما كتبه الحواريون ) وبعد أن يقرر شارل جينيير في كتابه المسيحية نشأتها وتطورها أنه ليس من مهمته سرد الخلافات التي كانت تدور في ذلك الوقت يقول : ( والكثير من جوانبها علي أى حال يبدو لنا غامضا أو مجهولا ) ورغم ذلك تحكى بعض المصادر المسيحية عن الخلاف بين بولس وأتباع المسيح اليهود ، وهو خلاف حاد لم يكن محصورا بين بطرس وبولس بل تدخل فيه يعقوب ( أخو عيسى ، حسب زعمهم ) ، وهناك عدد من التأويلات لهذا الخلاف ، وهي تأويلات مشوشة وغير منطقية لكنها تركز علي جبن بطرس وشجاعة بولس والأرجح أن الرواية كالتالي :-
( وصل بطرس إلى إنطاكية معتقدا أن بولس يحترم وصايا مجلس القدس التي تحرم علي المسيحيين غير اليهود أكل اللحم بدمه أو أكل ما أهل للأصنام ، ولهذا جلس وأكل معهم ، وبينما هو علي المائدة دخل عليه مبعوثو يعقوب وقالوا له أن بولس لا يحترم وصايا مجلس القدس ، ويحلل لأتباعه أن يأكلوا ما يشاءون لأن بعث المسيح نسخ التوراة ) . وبعد ذلك يذكر أن المجلس قد أنكر بولس رسميا وكانوا يرجون منه التوبة عما ألحقه برسالة المسيح .
محاكمة بولس ووفاته
حين توجه بولس إلى هيكل القدس كان يرجو أن يضع حدا لخلافه مع نصارى هذه المدينة ، وكان لا يعرف ما سيلاقيه من صعوبات ومشكلات – حسب المصادر المسيحية – وتقول ( أعمال الرسائل ) أن يهود آسيا رأوه في الهيكل وثاروا عليه وهاجموه وماجوا فكادوا يقتلوه.
وقد استدعي بولس مرتين للمثول أمام محكمة النصارى في القدس وتبرير موقفه ، وكان سجيناً عند الحاكم الروماني ( فيليكس) ينتظر حكمه فيه ، ومع مجئ الحاكم الروماني الجديد ( فستوس ) جدد الكاهن الأكبر شكواه مما أضطر بولس إلى الاستنجاد بقصر روما وطلب المحاكمة أمامه ، وهذا حق مكفول له بعد أن صار مواطناً رومانيا ، وفي ( أعمال الرسل ) قطعة أدبية يدافع فيها بولس عن نفسه أمام الملك اليهودي ( هيرودس) أغريباس الثاني ،أما ما جرى لبولس في روما فإن أعمال الرسل تسكت عن ذلك وليس هناك إشارة تاريخية إلى بولس بعد هذه الفترة ، ولعله قد أقنع السلطات الرومانية بأنه أنهى علاقته مع نصارى القدس المقربين ، ومما لا شك فيه أن مواطنيته الرومانية التي إشتراها من مال المسيحيين الأبرياء قد خدمته كثيراً – أما الأساطير الكنسية فتزعم أنه مات شهيداً في روما ، وهذا ما ليس له دليل تاريخي أبداً ، ومن الأرجح أنه عاش في روما حتى سن متقدمة وشيد فيها كنيسته وكرس لها وقته وحذقه وماله الذي نهبه – أما الأناجيل وأعمال الرسل فلا تذكر شيئاً عن دعوى استشهاده على يد الجنود الرومان .
وهناك من يقول أن بولس قد( سُجن في سجن رومية واعدم ضرباً بالسيف خارج روما بثلاثة أميال سنة 67م أو 68م ، وجميع فرق النصارى يعدونه رسول الأمم العظيم والقديس الأول وأنه أول تلاميذ المسيح ورئيسهم وأنه رأس الكنيسة المنظور والبابوات خلفاؤه وهو إن لم ير المسيح إطلاقا لكنه عندهم حواري باعتبار الصحبة الرومانية ، وهو نفسه يدعي المساواة بأعظم الحواريين – بطرس – وعند البروتستانت لا رجحان لبطرس عليه) .
ويقال أيضاً: إن بولس مات عام 63م ، ضمن النصارى الذين قتلهم نيرون عقب حريق روما واتهامه أياهم بإشعاله.
وهو تفسير من بين جملة تفسيرات أخرى لموته ، فليس من المعروف تاريخياً هل اتهم في روما وحكم عليه بالإعدام أم شملته حملة التطهير النيروني أم أطلق صراحة ليواصل مهمة التبشير أم مات موتًا طبيعياً في السجن لتقدم عمره ومرضه ، وكل هذه الأسئلة لا إجابات شافية لها.
لكن المتفق عليه هو أن ما أخترعه بولس وادخله في المسيحية قد توج في الأناجيل التي كتبت تحت تأثيره ولمصلحة كنيسته وبذلك انتشرت أفكاره ومعتقداته وان عصره وبعده بقليل هو عصر تطوير العقيدة المسيحية الغربية .
وقد ذهب الباحثون إلى أن بدون بولس كان من المحتمل أن لا توجد المسيحية ، وأن جملة الأحكام ذات العلاقة بالحلال والحرام قد اختفت مع بولس ، وأنه هو الذي حقق تحول المسيحية من فرقة يهودية إلى حركة عالمية ، ويرى مؤرخو الأديان - مثل هايم ماكبي في كتابه بولس وتحريف المسيحية - أن الأولى بهم أن لا يدرسون بولس باعتباره لاهوتيا ، بل باعتباره صانعاً للأسطورة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق